نسائم الرحمة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المنتدى خاص بمراسلاتي للمجموعات


    سلمان الفارسي

    avatar
    د. عمرو عبد المنعم
    Admin


    المساهمات : 280
    تاريخ التسجيل : 25/05/2010
    الموقع : http://groups.google.com/group/7amel?hl=ar

    سلمان الفارسي Empty سلمان الفارسي

    مُساهمة من طرف د. عمرو عبد المنعم الخميس يونيو 03, 2010 9:38 pm

    سلمان الفارسي
    من بلاد فارس، یجيء البطل ھذه المرة..وانھا لاحدى روائع الاسلام وعظمتھ، ألا
    یدخل بلدا من بلاد لله الا ویثیر في اعجاز باھر، كل نبوغھا ویفجر كل طاقاتھا،
    ویخرج خبء العبقریة في أھلھا وذویھا.. فاذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء
    المسلمون.. والفقھاء المسلمون.. والفلكیون المسلمون.. والمخترعون المسلمون..
    وعلماء الریاضة المسامون..
    واذا بھم یبزغون من كل أفق، ویطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الاسلام
    الأولى بعبقریات ھائلة في كل مجالات العقل، والارادة، والضمیر.. أوطانھم شتى،
    ودینھم واحد..!!
    ولقد تنبأ الرسول علیھ الصلاة والسلام بھذا المد المبارك لدینھ.. لا، بل وعد بھ وعد
    صدق من ربھ الكبیر العلیم.. ولقد زوي لھ الزمان والمكان ذات یوم ورأى رأي العین
    رایة الاسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابھا..
    وكان سلمان الفارسي شاھدا.. وكان لھ بما حدث علاقة وثقى.
    كان ذلك یوم الخندق. في السنة الخامسة للھجرة. اذ خرج نفر من زعماء الیھود
    قاصدین مكة، مؤلبین المشركین ومحزّبین الأحزاب على رسول لله والمسلمین،
    متعاھدین معھم على أن یعاونوھم في حرب حاسمة تستأصل شأفة ھذا الدین الجدید.
    ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن یھجم جیش قریش وغطفان "المدینة" من
    خارجھا، بینما یھاجم بنو قریظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمین، الذین
    سیقعون آنئذ بین شقىّ رحى تطحنھم، وتجعلھم ذكرى..!
    وفوجىء الرسول والمسلمون یوما بجیش لجب یقترب من المدینة في عدة متفوقة
    وعتاد مدمدم. وسقط في أیدي المسلمین، وكاد صوابھم یطیر من ھول المباغتة.
    وصوّر القرآن الموقف، فقال لله تعالى:
    ٢
    (اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
    وتظنون با الظنونا).
    أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قیادة أبي سفیان وعیینة بن حصن یقتربون من
    المدینة لیطوقوھا ولیبطشوا بطشتھم الحاسمة كي ینتھوا من محمد ودینھ، وأصحابھ..
    وھذا الجیش لا یمثل قریشا وحدھا.. بل ومعھا كل القبائل والمصالح التي رأت في
    الاسلام خطرا علیھا.
    انھا محاولة أخیرة وحاسمة یقوم بھا جمیع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات،
    وقبائل، ومصالح.. ورأى المسلمون أنفسھم في موقف عصیب..
    وجمع الرسول أصحابھ لیشاورھم في الأمر.. وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال..
    ولكن كیف الدفاع؟؟
    ھنالك تقدم الرجل الطویل الساقین، الغزیر الشعر، الذي كان الرسول یحمل لھ حبا
    عظیما، واحتراما كبیرا. تقدّم سلمان الفارسي وألقى من فوق ھضبة عالیة، نظرة
    فاحصة على المدینة، فألفاھا محصنة بالجبال والصخور المحیطة بھا.. بید أن ھناك
    فجوة واسعة، ومھیأة، یستطیع الجیش أن یقتحم منھا الحمى في یسر.
    وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثیر من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم
    للرسول صلى لله علیھ وسلم بمقترحھ الذي لم تعھده العرب من قبل في حروبھا..
    وكان عبارة عن حفر خندق یغطي جمیع المنطقة المكشوفة حول المدینة.
    ولله یعلم ، ماذا كان المصیر الذي كان ینتظر المسلمین في تلك الغزوة لو لم یحفروا
    الخندق الذي لم تكد قریش تراه حتى ألجمتھا المفاجأة، وظلت قواتھا جاثمة في خیامھا
    شھرا وھي عاجزة عن اقتحام المدینة، حتى أرسل لله تعالى علیھا ذات لیلة ریح
    صرصر عاتیة اقتلعت خیامھا، وبدّدت شملھا..
    ونادى أبو سفیان في جنوده آمرا بالرحیل الى حیث جاءوا.. فلولا یائسة منھوكة..!!
    خلال حفر الخندق كان سلمان یأخذ مكانھ مع المسلمین وھم یحفرون ویدأبون.. وكان
    الرسول علیھ الصلاة والسلام یحمل معولھ ویضرب معھم. وفي الرقعة التي یعمل
    فیھا سلمان مع فریقھ وصحبھ، اعترضت معولھم صخور عاتیة..
    كان سلمان قوي البنیة شدید الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثیق تفلق
    الصخر وتنشره شظایا، ولكنھ وقف أمام ھذه الصخرة عاجزا.. وتواصى علیھا بمن
    معھ جمیعا فزادتھم رھقا..!!
    وذھب سلمان الى رسول لله صلى لله علیھ وسلم یستأذنھ في أن یغیّروا مجرى الحفر
    تفادیا لتلك الصخرة العنیدة المتحدیة.
    وعاد الرسول علیھ الصلاة والسلام مع سلمان یعاین بنفسھ المكان والصخرة..
    وحین رآھا دعا بمعول، وطلب من أصحابھ أن یبتعدوا قلیلاعن مرمى الشظایا..
    وسمّى با ، ورفع كلتا یدیھ الشریفتین القابضتین على المعول في عزم وقوة، وھوى
    بھ على الصخرة، فاذا بھا تنثلم، ویخرج من ثنایا صدعھا الكبیر وھجا عالیا مضیئا.
    ٣
    ویقول سلمان لقد رأیتھ یضيء ما بین لا بتیھا، أي یضيء جوانب المدینة.. وھتف
    رسول لله صلى لله علیھ وسلم مكبرا:
    "لله أكبر..أعطیت مفاتیح فارس، ولقد أضاء لي منھا قصور الحیرة، ومدائن كسرى،
    وان أمتي ظاھرة علیھا"..
    ثم رفع المعول، وھوت ضربتھ الثانیة، فتكررت الظاھرة، وبرقت الصخرة
    المتصدعة بوھج مضيء مرتفع، وھلل الرسول علیھ الصلاة والسلام مكبرا:
    "لله أكبر.. أعطیت مفاتیح الروم، ولقد أضاء لي منھا قصورھا الحمراء، وان أمتي
    ظاھرة علیھا".
    ثم ضرب ضربتھ الثالثة فألقت الصخرة سلامھا واستسلامھا، وأضاء برقھا الشدید
    الباھر، وھلل الرسول وھلل المسلمون معھ.. وأنبأھم أنھ یبصر الآن قصور سوریة
    وصنعاء وسواھا من مدائن الأرض التي ستخفق فوقھا رایة لله یوما، وصاح
    المسلمون في ایمان عظیم:
    ھذا ما وعدنا لله ورسولھ
    وصدق لله ورسولھ..!!
    كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت
    منھا بعض أسرار الغیب والمصیر، حین استعان علیھا برسول لله صلى لله عیھ
    وسلم، وكان قائما الى جوار الرسول یرى الضوء، ویسمع البشرى.. ولقد عاش حتى
    رأى البشرى حقیقة یعیشھا، وواقعا یحیاه، فرأى مدائن الفرس والروم..
    رأى قصور صنعاء وسوریا ومصر والعراق..
    رأى جنبات الأرض كلھا تھتز بالدوي المبارك الذي ینطلق من ربا المآذن العالیة في
    كل مكان مشعا أنوار الھدى والخیر..!!
    وھا ھو ذا، جالس ھناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" یحدث
    جلساءه عن مغامرتھ العظمى في سبیل الحقیقة، ویقص علیھم كیف غادر دین قومھ
    الفرس الى المسیحیة، ثم الى الاسلام..
    كیف غادر ثراء أبیھ الباذخ، ورمى نفسھ في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقلھ
    وروحھ..!!!
    كیف بیع في سوق الرقیق، وھو في طریق بحثھ عن الحقیقة..؟؟
    كیف التقى بالرسول علیھ الصلاة والسلام.. وكیف آمن بھ..؟؟
    تعالوا نقترب من مجلسھ الجلیل، ونصغ الى النبأ الباھر الذي یرویھ..
    یقول سلمان:
    كنت رجلا من أھل أصبھان، من قریة یقال لھا "جي"..
    وكان أبي دھقان أرضھ (كاھنھا) وكنت من أحب عباد لله الیھ..
    ٤
    وقد اجتھدت في المجوسیة، حتى كنت قاطن النار الذي یوقدھا، ولا یتركھا تخبو..
    وكان لأبي ضیعة، أرسلني الیھا یوما، فخرجت، فمررت بكنیسة للنصارى، فسمعتھم
    یصلون، فدخلت علیھم أنظر ما یصنعون، فأعجبني ما رأیت من صلاتھم، وقلت
    لنفسي ھذا خیر من دیننا الذي نحن علیھ، فما برحتھم حتى غابت الشمس، ولا ذھبت
    الى ضیعة أبي، ولا رجعت الیھ حتى بعث في أثري...
    وسألت النصارى حین أعجبني أمرھم و صلاتھم عن أصل دینھم، فقالوا في الشام..
    وقلت لأبي حین عدت الیھ: اني مررت على قوم یصلون في كنیسة لھم فأعجبتني
    صلاتھم، ورأیت أن دینھم خیر من دیننا..
    فحازرني وحاورتھ.. ثم جعل في رجلي حدیدا وحبسني..
    وأرسلت الى النصارى أخبرھم أني دخلت في دینھم وسألتھم اذا قدم علیھم ركب من
    الشام، أن یخبروني قبل عودتھم الیھا لأرحل الى الشام معھم، وقد فعلوا، فحطمت
    الحدید وخرجت، وانطلقت معھم الى الشام..
    وھناك سألت عن عالمھم، فقیل لي ھو الأسقف، صاحب الكنیسة، فأتیتھ وأخبرتھ
    خبري، فأقمت معھ أخدم، وأصلي وأتعلم..
    وكان ھذا الأسقف رجل سوء في دینھ، اذ كان یجمع الصدقات من الانس لیوزعھا،
    ثم یكتنزھا لنفسھ.
    ثم مات..
    وجاءوا بآخر فجعلوه مكانھ، فما رأیت رجلا على دینھم خیرا منھ، ولا أعظم منھ
    رغبة في الآخرة، وزھدا في الدنیا ودأبا على العبادة..
    وأحببتھ حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثلھ قبلھ.. فلما حضر قدره قلت لھ: انھ قد
    حضرك من أمر لله تعالى ما ترى، فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
    قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا علیھ الا رجلا بالموصل..
    فلما توفي، أتیت صاحب الموصل، فأخبرتھ الخبر، وأقمت معھ ما شاء لله أن أقیم، ثم
    حضرتھ الوفاة، سألتھ فأمرني أن ألحق برجل في عموریة في بلاد الروم، فرحلت
    الیھ، وأقمت معھ، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
    ثم حضرتھ الوفاة، فقلت لھ: الى من توصي بي؟ فقال لي: یا بني ما أعرف أحدا على
    مثل ما كنا علیھ، آمرك أن تأتیھ، ولكنھ قد أظلك زمان نبي یبعث بدین ابراھیم حنیفا..
    یھاجر الى أرض ذات نخل بین جرّتین، فان استطعت أن تخلص الیھ فافعل.
    وان لھ آیات لا تخفى، فھو لا یأكل الصدقة.. ویقبل الھدیة. وان بین كتفیھ خاتم النبوة،
    اذا رأیتھ عرفتھ.
    ومر بي ركب ذات یوم، فسألتھم عن بلادھم، فعلمت أنھم من جزیرة العرب. فقلت
    لھم: أعطیكم بقراتي ھذه وغنمي على أن تحملوني معكم الى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
    واصطحبوني معھم حتى قدموا بي وادي القرى، وھناك ظلموني، وباعوني الى رجل
    من یھود.. وبصرت بنخل كثیر، فطمعت أن تكون ھذه البلدة التي وصفت لي، والتي
    ستكون مھاجر النبي المنتظر.. ولكنھا لم تكنھا.
    ٥
    وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم علیھ یوما رجل من یھود بني قریظة،
    فابتاعني منھ، ثم خرج بي حتى قدمت المدینة!! فولله ما ھو الا ان رأیتھا حتى أیقنت
    أنھا البلد التي وصفت لي..
    وأقمت معھ أعمل لھ في نخلھ في بني قریظة حتى بعث لله رسولھ وحتى قدم المدینة
    ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
    واني لفي رأس نخلة یوما، وصاحبي جالس تحتھا اذ أقبل رجل من یھود، من بني
    عمھ، فقال یخاطبھ: قاتل لله بني قیلة اھنم لیتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة
    یزعم أنھ نبي..
    فولله ما أن قالھا حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق
    صاحبي!! ثم نزلت سریعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
    فرفع سیدي یده ولكزني لكزة شدیدة، ثم قال: مالك ولھذا..؟
    أقبل على عملك..
    فأقبلت على عملي.. ولما أمسیت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول
    لله صلى لله علیھ وسلم بقباء.. فدخلت علیھ ومعھ نفر من أصحابھ، فقلت لھ: انكم
    أھل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرتھ للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأیتم
    أحق الناس بھ فجئتكم بھ..
    ثم وضعتھ، فقال الرسول لأصحابھ: كلوا باسم لله.. وأمسك ھو فلم یبسط الیھ یدا..
    فقلت في نفسي: ھذه ولله واحدة .. انھ لا یأكل الصدقة..!!
    ثم رجعت وعدت الى الرسول علیھ السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت لھ علیھ
    السلام: اني رأیتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك بھ ھدیة،
    ووضعتھ بین یدیھ، فقال لأصحابھ كلوا باسم لله..
    وأكل معھم..
    قلت لنفسي: ھذه ولله الثانیة.. انھ یأكل الھدیة..!!
    ثم رجعت فمكثت ما شاء لله، ثم أتیتھ، فوجدتھ في البقیع قد تبع جنازة، وحولھ
    أصحابھ وعلیھ شملتان مؤتزرا بواحدة، مرتدیا الأخرى، فسلمت علیھ، ثم عدلت
    لأنظر أعلى ظھره، فعرف أني أرید ذلك، فألقى بردتھ عن كاھلھ، فاذا العلامة بین
    كتفیھ.. خاتم النبوة، كما وصفھ لي صاحبي..
    فأكببت علیھ أقبلھ وأبكي.. ثم دعاني علیھ الصلاة والسلام فجلست بین یدیھ، وحدثتھ
    حدیثي كما أحدثكم الآن..
    ثم أسلمت.. وحال الرق بیني وبین شھود بدر وأحد..
    وفي ذات یوم قال الرسول علیھ الصلاة والسلام:" كاتب سیدك حتى یعتقك"، فكاتبتھ،
    وأمر الرسول أصحابھ كي یعونوني. وحرر لله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشھدت
    مع رسول لله غزوة الخندق، والمشاھد كلھا. ھذه القصة مذكورة في الطبقات
    الكبرى لابن سعد.
    ٦
    بھذه الكلمات الوضاء العذب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرتھ الزكیة النبیلة
    العظیمة في سبیل بحثھ عن الحقیقة الدینیة التي تصلھ با ، وترسم لھ دوره في
    الحیاة..
    فأي انسان شامخ كان ھذا الانسان..؟
    أي تفوق عظیم أحرزتھ روحھ الطلعة، وفرضتھ ارادتھ الغلابة على المصاعب
    فقھرتھا، وعلى المستحیل فجعلتھ ذلولا..؟
    أي تبتل للحقیقة.. وأي ولاء لھا ھذا الذي أخرج صاحبھ طائعا مختارا من ضیاع أبیھ
    وثرائھ ونعمائھ الى المجھول بكل أعبائھ، ومشاقھ، ینتقل من أرض الى أرض.. ومن
    بلد الى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصیرتھ الناقدة الناس، والمذاھب والحیاة..
    ویظل في اصراره العظیم وراء الحق، وتضحیاتھ النبیلة من أجل الھدى حتى یباع
    رقیقا.. ثم یثیبھ لله ثوابھ الأوفى، فیجمعھ بالحق، ویلاقیھ برسولھ، ثم یعطیھ من
    طول العمر ما یشھد معھ بكلتا عینیھ رایات لله تخفق في كل مكان من الأرض،
    وعباده المسلمون یملؤن أركانھا وأنحاءھا ھدى وعمرانا وعدلا..؟!!
    ماذا نتوقع أن یكون اسلام رجل ھذه ھمتھ، وھذا صدقھ؟
    لقد كان اسلام الأبرار المتقین.. وقد كان في زھده، وفطنتھ، وورعھ أشبھ الناس بعمر
    بن الخطاب.
    أقام أیاما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي لله عنھ یقوم اللیل
    ویصوم النھار.. وكان سلمان یأخذ علیھ مبالغتھ في العبادة على ھذا النحو.
    وذات یوم حاول سلمان أن یثني عزمھ على الصوم، وكان نافلة..
    فقال لھ أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي لھ..؟ّ
    فأجابھ سلمان قائلا:
    ان لعینك علیك حقا، وان لأھلك علیك حقا، صم وافطر، وصل ونم..
    فبلغ ذلك الرسول صلى لله علیھ وسلم فقال:
    " لقد أشبع سلمان علما ".
    وكان الرسول علیھ السلام یرى فطنتھ وعلمھ كثیرا، كما كان یطري خلقھ ودینھ..
    ویوم الخندق، وقف الأنصار یقولون: سلمان منا.. وقف المھاجرون یقولون بل سلمان
    منا..
    وناداھم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البیت".
    وانھ بھذا الشرف لجدیر..
    وكان علي بن أبي طالب رضي لله عنھ یلقبھ بلقمان الحكیم سئل عنھ بعد موتھ فقال:
    [ذاك امرؤ منا والینا أھل البیت.. من لكم بمثل لقمان الحكیم..؟
    أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا
    ینزف].
    ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول علیھ السلام جمیعا المنزلة الرفیعة والمكان
    الأسمى.
    ٧
    ففي خلافة عمر جاء المدینة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنھ صنعھ مع أحد غیره
    أبدا، اذ جمع أصحابھ وقال لھم:
    "ھیا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
    وخرج بھم لاستقبالھ عند مشارف المدینة.
    لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى بھ وآمن معھ مسلما حرّا، ومجاھدا وعابدا.
    وعاش مع خلیفتھ أبي بكر، ثم أمیر المؤمنین عمر، ثم الخلیفة عثمان حیث لقي ربھ
    أثناء خلافتھ.
    وفي معظم ھذه السنوات، كانت رایات الاسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال
    تحمل الى المدینة فیئا وجزیة، فتوزّع على الناس في صورة أعطیات منتظمة،
    ومرتبات ثابتة.
    وكثرت مسؤولیات الحكم على كافة مستویاتھا، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لھا..
    فأین كان سلمان في ھذا الخضم..؟ وأین نجده في أیام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟
    افتحوا ابصاركم جیدا..
    أترون ھذا الشیخ المھیب الجالس ھناك في الظل یضفر الخوص ویجدلھ ویصنع منھ
    أوعیة ومكاتل..؟
    انھ سلمان..
    انظروه جیدا..
    انظروه جیدا في ثوبھ القصیر الذي انحسر من قصره الشدید الى ركبتھ..
    انھ ھو، في جلال مشیبھ، وبساطة اھابھ.
    لقد كان عطاؤه وفیرا.. كان بین أربعة وستة آلاف في العام، بید أنھ كان یوزعھ
    جمیعا، ویرفض أن ینالھ منھ درھم واحد، ویقول:
    "أشتري خوصا بدرھم، فأعملھ، ثم أبیعھ بثلاثة دراھم، فأعید درھما فیھ، وأنفق
    درھما على عیالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نھاني عن ذلك ما
    انتھیت"!
    ثم ماذا یا أتباع محمد..؟
    ثم ماذا یا شرف الانسانیة في كل عصورھا..؟؟
    لقد كان بعضنا یظن حین یسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعھم، مثل أبي بكر
    الصدیق وعمر وأبي ذر واخوانھم، أن مرجع ذلك كلھ طبیعة الحیاة في الجزیرة
    العربیة حیث یجد العربي متاع نفسھ في البساطة..
    فھا نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنیة، ولم یكن من الفقراء بل
    من صفوة الناس. ما بالھ یرفض ھذا المال والثروة والنعیم، ویصر أن یكتفي في
    یومھ بدرھم یكسبھ من عمل یده..؟
    ما بالھ یرفض الإمارة ویھرب منھا ویقول:
    "ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أمیرا على اثنین؛ فافعل..".
    ٨
    ما بالھ یھرب من الامارة والمنصب، الا أن تكون امارة على سریةّ ذاھبة الى
    الجھاد.. والا أن تكون في ظروف لا یصلح لھا سواه، فیكره علیھا اكراھا، ویمضي
    الیھا باكیا وجلا..؟
    ثم ما بالھ حین یلي على الامارة المفروضة علیھ فرضا یأبى أن یأخذ عطاءھا
    الحلال..؟؟
    روى ھشام عن حسان عن الحسن:
    " كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثین ألفا من الناس یخطب في عباءة
    یفترش نصفھا، ویلبس نصفھا.."
    "وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه، ویأكل من عمل یدیھ..".
    ما بالھ یصنع كل ھذا الصنیع، ویزھد كل ذلك الزھد، وھو الفارسي، ابن النعمة،
    وربیب الحضارة..؟
    لنستمع الجواب منھ. وھو على فراش الموت. تتھیأ روحھ العظیمة للقاء ربھا العلي
    الرحیم.
    دخل علیھ سعد بن أبي وقاص یعوده فبكى سلمان..
    قال لھ سعد:" ما یبكیك یا أبا عبد لله..؟ لقد توفي رسول لله وھو عنك راض".
    فأجابھ سلمان:
    " ولله ما أبكي جزعا من الموت، ولاحرصا على الدنیا، ولكن رسول لله صلى لله
    علیھ وسلم عھد الینا عھدا، فقال: لیكن حظ أحدكم من الدنیا مثل زاد الراكب، وھأنذا
    حولي ھذه الأساود"!!
    یعني بالأساود الأشیاء الكثیرة!
    قال سعد فنظرت، فلم أرى حولھ الا جفنة ومطھرة، فقلت لھ: یا أبا عبدلله اعھد الینا
    بعھد نأخذه عنك، فقال:
    " یا سعد:
    اذكر عند لله ھمّتك اذا ھممت..
    وعند حكمتك اذا حكمت..
    وعند یدك اذا قسمت.."
    ھذا ھو اذن الذي ملأ نفسھ غنى، بقدر ما ملأھا عزوفا عن الدنیا بأموالھا،
    ومناصبھا وجاھھا.. عھد رسول لله صلى لله علیھ وسلم الیھ والى أصحابھ جمیعا:
    ألا یدعو الدنیا تتملكھم، وألا یأخذ أحدھم منھا الا مثل زاد الركب..
    ولقد حفظ سلمان العھد ومع ھذا فقد ھطلت دموعھ حین رأى روحھ تتھیأ للرحیل،
    مخافة أن یكون قد جاوز المدى.
    لیس حولھ الا جفنة یأكل فیھا، ومطھرة یشرب منھا ویتوضأ ومع ھذا یحسب نفسھ
    مترفا..
    ألم أقل لكم انھ أشبھ الناس بعمر..؟
    ٩
    وفي الأیام التي كان فیھا أمیرا على المدائن، لم یتغیر من حالھ شيء. فقد رفض أن
    ینالھ من مكافأة الامارة درھم.. وظل یأكل من عمل الخوص.. ولباسھ لیس الا عباءة
    تنافس ثوبھ القدیم في تواضعھا..
    وذات یوم وھو سائر على الطریق لقیھ رجل قادم من الشام ومعھ حمل تین وتمر..
    كان الحمل یؤد الشامي ویتعبھ، فلم یكد یبصر أمامھ رجلا یبدو أنھ من عامة الناس
    وفقرائھم، حتى بدا لھ أن یضع الحمل على كاھلھ، حتى اذا أبلغھ وجھتھ أعطاه شیئا
    نظیر حملھ..
    وأشار للرجل فأقبل علیھ، وقال لھ الشامي: احمل عني ھذا.. فحملھ ومضیا معا.
    واذ ھما على الطریق بلغا جماعة من الانس، فسلم علیھم، فأجابوا واقفین: وعلى
    الأمیر السلام..
    وعلى الأمیر السلام..؟
    أي أمیر یعنون..؟!!
    ھكذا سأل الشامي نفسھ..
    ولقد زادت دھشتھ حین رأى بعض ھؤلاء یسارع صوب سلمان لیحمل عنھ قائلین:
    عنك أیھا الأمیر..!!
    فعلم الشامي أنھ أمیر المدائن سلمان الفارسي، فسقط في یده، وھربت كلمات الاعتذار
    والأسف من بین شفتیھ، واقترب ینتزع الحمل. ولكن سلمان ھز رأسھ رافضا وھو
    یقول:
    " لا، حتى أبلغك منزلك"..!!
    سئل یوما: ما الذي یبغض الامارة الى نفسك.؟
    فأجاب: " حلاوة رضاعھا، ومرارة فطامھا"..
    ویدخل علیھ صاحبھ یوما بیتھ، فاذا ھو یعجن، فیسألھ:
    أین الخادم..؟
    فیجیبھ قائلا:
    " لقد بعثناھا في حاجة، فكرھنا أن نجمع علیھا عملین.."
    وحین نقول بیتھ فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البیت..؟ فحین ھمّ سلمان ببناء ھذا الذي
    یسمّى مع التجوّز بیتا، سأل البنّاء: كیف ستبنیھ..؟
    وكان البناّء حصیفا ذكیا، یعرف زھد سلمان وورعھ.. فأجابھ قائلا:" لا تخف.. انھا
    بنایة تستظل بھا من الحر، وتسكن فیھا من البرد، اذا وقفت فیھا أصابت رأسك، واذا
    اضطجعت فیھا أصابت رجلك"..!
    فقال لھ سلمان: "نعم ھكذا فاصنع".
    لم یكن ھناك من طیبات الحیاة الدنیا شيء ما یركن الیھ سلمان لحظة، أو تتعلق بھ
    نفسھ اثارة، الا شیئا كان یحرص علیھ أبلغ الحرص، ولقد ائتمن علیھ زوجتھ، وطلب
    الیھا أن تخفیھ في مكان بعید وأمین.
    ١٠
    وفي مرض موتھ وفي صبیحة الیوم الذي قبض فیھ، ناداھا:
    "ھلمي خبیكّ التي استخبأتك"..!!
    فجاءت بھا، واذا ھي صرة مسك، كان قد أصابھا یوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بھا
    لتكون عطره یوم مماتھ.
    ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فیھ، ثم ماثھ بیده، وقال لزوجتھ:
    "انضجیھ حولي.. فانھ یحصرني الآن خلق من خلق لله، لا یأكلون الطعام، وانما
    یحبون الطیب".
    فلما فعلت قال لھا:" اجفئي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرھا بھ..
    وبعد حین صعدت الیھ، فاذا روحھ المباركة قد فارقت جسده ودنیاه.
    قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق الیھ، اذ كانت على موعد ھناك
    مع الرسول محمد، وصاحبیھ أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجیدة من الشھداء والأبرار.
    لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان..
    وآن الیوم أن یرتوي، وینھل..

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 14, 2024 3:24 pm